من هو القعقاع بن عمر يُصادف المرءُ أحياناً أموراً قد لا يخطر على باله مصادفتها أبداً؛ فأنْ يتوقع الإنسانُ وجودَ شخصية ثانوية ما في كتب التاريخ كون موهومة في الحقيقة ولا وجود لها في الواقع أمرٌ ممكنٌ وواردُ الحدوثِ، أما أنْ يجد المرءُ مَن يُنكر وجودَ شخصيةٍ كان لها دوراً بارزاً ومهماً في التاريخ الإسلامي وقد سجَّل بطولاتها المجيدة ومواقفها الحميدة جمهورُ المؤرخين والمحدِّثين فأمرٌ لا يمكن توقُّعه!
وقد يكون السبب في عدم توقُّع مثل هذا الأمر هو أنَّ المعروف عن جميع الباحثين والمحققين في التاريخ والسِّيَر أنهم يتوخُّون الحذر في استنتاجاتهم وتقاريرهم، ويبتعدون عن الشذوذ قدر إمكانهم.. ولكن ما قرأتُه للعلامة "مرتضى العسكري" أدهشني وحيَّرني!
اهتممتُ يوماً بشخصيةٍ تُدعى "عبد الله بن سبأ" المعروف بـ: "ابن السوداء"، وقد حاولتُ في ذلك الحين أن أقرأ جميع ما يمكن الحصول عليه ممَّا كُتب عن ذاك الشخص؛ وكان سبب اهتمامي الشديد بتلك الشخصية هو الدور المنسوب لها في الفتنة التي وقعت في خلافة سيدنا عثمان بن عفان ــ رضوان الله تعالى عليه ــ، وأنها أصل بدعة الغلو في سيدنا علي بن أبي طالب ــ كرَّم الله وجهه ــ.
ومما وقع بين يديَّ من الكتب المتحدِّثة عن تلك الشخصية كتاب: "عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى"، تأليف: "السيد مرتضى العسكري". قرأتُ ذلك الكتاب، ولم يدهشني كثيراً القول بأسطورة "عبد الله بن سبأ"، ولكن أذهلني إصرار المؤلف ــ هداه الله ــ على الادعاء بأن "القعقاع بن عمرو التميمي" كان شخصية مختلقة اختلقها المؤرخ سيف بن عمر المضعَّف عند معظم علماء المسلمين.
ومع اعترافي بالجهد الكبير الذي قام به السيد مرتضى العسكري في كتابة ذلك الكتاب لا أُنكر الشذوذ الخطير في كثير من نتائج ذلك البحث واستنتاجات المؤلف فيه! ولئن وجدتُ ضالتي بخصوص قضية "عبد الله بن سبأ" الشخصية غير الحميدة في التاريخ الإسلامي فإنني لم أستطع فهم موقف مرتضى العسكري من القعقاع بن عمرو.
ولئن كان كرهه لعبد الله بن سبأ ورغبته بالدفاع عن أصحابه الشيعة وما يُرْمَوْنَ به من غلو وتطرّف دفعه إلى القول بأن عبد الله بن سبأ لم يكن سوى أسطورة، وقد كان يكفيه أن يتبرأ منه أو يبرأ الشيعة من أقواله وما يُنسب إليه من أفعال، فإنَّ ما لم يُفهم تماماً هو ما الذي دفعه إلى القول بعدم صحة وجود شخص يدعى القعقاع بن عمرو!
فهل كان ذلك منه للتشكيك بالتاريخ الإسلامي وحسب؟ أم بإثبات الاختلاق والكذب عمداً من قبل المؤرخين والمحدِّثين من أهل السنة؟ أم كره "بني تميم" عموماً والرغبة في إثارة الشك في حروب الردة..؟!
لقد كان القعقاع من فرسان العرب وشجعانهم ولا شك، وقد كان له فضلاً كبيراً في حروب المسلمين وفتوحاتهم لا سيما حروب الردة، وقد أجمع المؤرخون أنه كان من جنود أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وسنبين ذلك لاحقاً إنْ شاء الله.
القعقاع بن عمرو بين الأسطورة والحقيقة
قال السيد مرتضى العسكري:
{"القعقاع بن عمرو" من مختلقات سيف بن عمر من الصحابة، ترجمناه في كتابنا "خمسون ومائة صحابي مختلق".} (1)
وقال:
{اختلق سيف بن عمر بطولات فذَّة لأبطال أساطير من قبيلته "تميم" كالأخوين القعقاع وعاصم، ثم اخترع لهذه الأساطير رواة روى أساطيره عنهم على صورة أحاديث، فقال:
حدَّثني فلان عن فلان. فأخذ منه الطبري في ذكره حرب القادسية من تاريخه، ومن الطبري أخذ ابن الأثير وابن كثير وابن خلدون في تواريخهم، وترجمها الحموي في معجم البلدان، وأشار إليها ابن عبدون في قصيدته وشرحها ابن بدرون، وأوردها القلقشندي في "أيام الإسلام"، وقد أوردنا تفصيل ما ذكره سيف في هذه الأيام في ترجمة القعقاع وعاصم من كتابنا "خمسون ومائة صحابي مختلق".} (2)
* القعقاع بن عمرو من فرسان جيش الخليفة أبي بكر الصديق ــ رضي الله عنه وأرضاه ــ:
مما جاء في التاريخ أنَّ:
{خالد بن الوليد استمدَّ أبا بكر الصديق، فأمدّ أبو بكر خالداً بالقعقاع بن عمرو التميمي، فقيل له: أتمدّ رجلاً قد ارفضَّ عنه جنودُه برجلٍ واحدٍ؟ فقال: لا يُهزم جيش فيهم مثل هذا.} (3)
* القعقاع بن عمرو من فرسان جيش الخليفة عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه وأرضاه ــ:
مما جاء في التاريخ أنه في فتح المدائن على زمن الخليفة عمر ــ رض ــ:
{سَلِمَ جميع المسلمين، غير أن رجلاً واحداً يُقال له غرقدة البارقي زلَّ عن فرس له شقراء فأخذ القعقاع بن عمرو بلجامها، وأخذ بيد الرجل حتى عدل على فرسه، وكان من الشجعان، فقال: عجزت النساء أنْ يلدن مثل القعقاع بن عمرو.} (4)
* القعقاع بن عمرو من عمَّال الخليفة عثمان بن عفان ــ رضي الله عنه وأرضاه ــ:
قال جمهور المؤرِّخين ومتقدِّميهم أن القعقاع بن عمرو التميمي كان عامل الخليفة عثمان على حرب الكوفة. (5)
* القعقاع بن عمرو من فرسان جيش الخليفة علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه وأرضاه ــ:
شهد القعقاع بن عمرو مع علي بن أبي طالب الجملَ وغيرها من حروبه، وأرسله عليّ ــ رضي الله عنه ــ إلى طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام فكلَّمهما بكلام حَسَنٍ تَقارب الناسُ به إلى الصُّلح. (6)
أما عن ترجمة القعقاع بن عمرو فهو:
{أخو عاصم بن عمرو. كان من الشجعان الفرسان، قيل: إن أبا بكر الصديق كان يقول:
لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل، وله في قتال الفرس بالقادسية وغيرها بلاء عظيم.
ذكر ذلك سيف بن عمر في الفتوح، وقال سيف عن عمرو بن تمام عن أبيه عن القعقاع بن عمرو قال: قال لي رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ:
"ما أعددتَ للجهاد؟".
قلتُ: طاعة الله ورسوله والخيل.
قال:
"تلك الغاية".
وأنشد سيف للقعقاع:
ولقد شهدتُ البرق برق تهامة يهدي المناقب راكباً لغبار
في جـند سـيف الله سـيف محمد والسـابقين لـسـنة الأحـرار
قال سيف: قالوا: كتب عمر إلى سعد أيّ فارس كان أفرس في القادسية؟ قال: فكتب إليه إني لم أرَ مثل القعقاع بن عمرو، حمل في يوم ثلاثين حملة، يقتل في كل حملة بطلاً. وقال ابن أبي حاتم: قعقاع بن عمرو قال: شهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه سيف ابن عمر عن عمرو ابن تمام عن أبيه عنه وسيف متروك، فبطل الحديث، وإنما ذكرناه للمعرفة (7).
قلتُ : أخرجه ابن السكن من طريق إبراهيم بن سعد عن سيف بن عمر عن عمرو عن أبيه عن القعقاع بن عمرو قال: شهدتُ وفاة رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فلما صلينا الظهر جاء رجل حتى قام في المسجد، فأخبر بعضهم أن الأنصار قد أجمعوا أن يولوا سعداً يعني ابن عبادة ويتركوا عهد رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم ــ فاستوحش المهاجرون ذلك.
قال ابن السكن: سيف بن عمر ضعيف.
وقال ابن عساكر: يقال: إن له صحبة، كان أحد فرسان العرب وشعرائهم، شهد فتح دمشق وأكثر فتوح العراق، وله في ذلك أشعار موافقة مشهورة، وذكر سيف عن محمد وطلحة أنه كان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان على كردوس في فتح اليرموك وهو القائل:
يدفعون قعقاعاً لكل كريهة فيجيب قعقاع دعاء الهاتف.
في أبيات.
وقال غيره: استمد خالد أبا بكر لما حاصر الحيرةَ فأمدّه بالقعقاع بن عمرو وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وهو الذي غنم في فتح المدائن أدراع كسرى، وكان فيها درع لهرقل ودرع لخاقان ودرع للنعمان، وسيفه وسيف كسرى فأرسلها سعد إلى عمر، وذكر سيف بسند له عن عائشة أنه قطع مشفر الفيل الأعظم فكان هزمهم.} (9)
وقال خير الدين الزركلي:
{القعقاع بن عمرو أحد فرسان العرب وأبطالهم في الجاهلية والإسلام. له صحبة. شهد اليرموك وفتح دمشق وأكثر وقائع أهل العراق مع الفرس. سكن الكوفة، وأدرك وقعة صفين فحضرها مع علي. كان شاعراً فحلاً. قال أبو بكر: صوت القعقاع في الجيش خير من ألف رجل.} (10)
خلاصة وخاتمة
ليس من صفات العقلاء الركون إلى أمر لم تثبت صحته، كما أنه ليس من الطبيعي القبول بأمر يناقض جميع المعطيات المتوفرة ويعارضها ما لم يدعَّم ذلك الأمر بالأدلة والبراهين الكافية.. فكيف يكون بالإمكان قبول ما طرحه العلامة العسكري والركون إليه؟!
لقد ثبت وصح عن القعقاع بن عمرو صدق إيمانه وإخلاصه لله، ولم يتوانَ عن نصرة الحق ما دام حياً، ولقد أخلص إلى الله ورسوله بإخلاصه إلى خلفاء الرسول الأربعة؛ ولم يدَّخر جهداً في النصح لصالح الحق والمسلمين، ونرى ذلك واضحاً في زمن الفتن كما كان في عهد الخليفة عثمان ــ رضوان الله تعالى عليه ــ حيث ثبت على نصرته والإخلاص له إلى آخر لحظة (11)، وكذلك في الفتنة التي وقعت في زمن الخليفة علي ــ رضوان الله تعالى عليه ــ.
ولا يستطيع أحدٌ من الناس نسبة القعقاع بن عمرو إلى فريق دون الآخر سوى فريق الحق المتمثِّل بالخلفاء الراشدين الأربعة الذين أطبقت الأمة على صلاحهم وحسن اقتدائهم بسيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد ــ صلى الله عليه وسلم ــ.
فلماذا هذه الحملة إذاً؟
لم يكن القعقاع مع أبي بكر دون عمر، ولا مع عمر دون عثمان، ولا مع عثمان دون علي؛ فما هو جرمه؟
أيشنُّ مثل هذه الحملة على شخصٍ مثل القعقاع لأنه كان مخلصاً مع الخلفاء الثلاثة ويُنسى موقفه ــ الرائع الحق ــ مع الخليفة الرابع علي؟! ألم يخلص النصيحة له وللمسلمين؟ (12) ألم يثبت مع عليّ في حروبه كلها؟!
أخيراً أقول:
إنني أرى في سيرة القعقاع بن عمرو قدوة مثلى تحتذى!