[color=red]الله يخرب بيتك يا ريس
عنوانُ مقال لا يتناسب مع جدّية الموضوع، لكنه في الحقيقة يُعبر عن أكثر الكلمات استخداماً في الحياة اليومية المصرية.
لا تدري إن كانت ( الله يخرب بيتك يا ريس ) تمنيات أم دعاءً أم بركاناً من الغضب أو صراخا مكتوماً من وجع لو نزل على جبل لتصدع وانشق وتناثر في الهواء.
تقترب من سيدة ترتدي ثيابا بالية وتعبث يداها المعروقتان بمحتويات صندوق قمامة في أحد الشوارع الجانبية بأم الدنيا، وترى عينيها الذابلتين تدمعان على كرامتها وعلى بطون أولادها الخاوية والتي تتضور جوعا، فيمنعك الحياء من الاقتراب أكثر لتسمع دعاءها:
الله يخرب بيتك يا ريس.
إنها واحدة من مئات الأمهات اللواتي يبحثن في زمن حسني مبارك عما يسد رمق فلذات أكبادهن، وهن لا يعرفن أن ثروة أحمد عز صديق الرئيس الشاب القادم تبلغ أربعين مليارا من الجنيهات، وأقل منها ثروة علاء مبارك وأفقر منهما جمال مبارك.
تسير على غير هَدْي فتشاهد فتاةً توشي تقاطيعُ وجهها بجمال اعتدى عليه سرطانٌ أطلقته مزروعاتُ يوسف والي طوال عشرين عاما، وتتجه متكئة ذات اليمن وذات الشمال على قريبَيّن لها، فلعل المستوصف القريبَ من منزلها يمنحها أملا في عامين آخرين من حياةٍ بائسة.
تسألها وعيناك تخجلان من الالتقاء بعينيها: ماذا بكِ؟
لسانٌ ثقيل كأنه يحمل جبالا من الحزن يَرَدّ قائلا:
الله يخرب بيتك يا ريس.
تنسحب فورا من المواجهة مع عينيها الحزينتين، فهي واحدة من عدة ملايين مصري أصابت أكبادَهم وقلوبَهم ومرارتَهم وكلَّ مسامات أجسامهم أمراضٌ لم يكن من الممكن تجنبها، فهي من الطعام والشراب والمياه الملوثة والهواء الأكثر تلوثا بعدما استنشقت سماءُ الأرض الطيبة كل الغازات السامة من مصانع رجال الرئيس وأصدقاء ابنه .. الرئيس أيضا.
تسمع سُعَالاً كأنه ينذر بالنَفَس الأخير قبل صعود الروح، وتتماسك بشجاعة مفتعلة لتقترب من الميت الحي، فتجده تلميذا لم يبلغ الحُلْمَ بعد، وكان من المفترض أن الحياة كلها تبتسم لمستقبله، وتحتضنه قبل أن تعطيه كل عام ربيعا جديدا.
الوجه الأصفر يُنْبيء بأن ملَكَ الموت على مبعدة أيام أو أسابيع معدودة، فتسأل ذلك الكبيرَ الذي يصحبه عما به، فيجيبك دمعُ خنيق مُحَدّثاً أذنيك عن دفن نفايات الحديد في الأرض الزراعية في تلك البلد التي عاش فلاحوها بجوار أبقارها ومركز محو الأمية والمياه العكرة التي تُكَذّب ما دَرَسْته بأن المياه لا طعم لها ولا لون ولا رائحة.
هذا التلميذ الذي لن تراه مرة أخرى، وسيلفُه قريبا كفن من قماش رخيص، وتحتويه حفرة صغيرة في مقبرة العائلة، هو واحد من ضحايا كلاب الجشع الذين يطاردون أجساد المصريين، فيسرقونها في غرف العمليات، ويسرطنونها في الطعام، ويسممونها فيما يدفنون من نفايات تحت الأرض الزراعية أمام غبطة ورضا وسعادة الرئيس.
تبتعد عن سُعَال هذا المسكين، ثم تلتفت إليه فتسمع حشرجة خارجة من الصدر مباشرة دون أن تمُرّ على اللسان. إنها ...
الله يخرب بيتك يا ريس.
تقرر اختصارا للوقت أن تسمعها من جماعات فتطلب من سبعة ملايين عاطل عن العمل،شبابا وكهولا يبتلعون كرامتهم في البحث عن حقوقهم المشروعة، وهي توفير العمل اللائق والمناسب لقيمة الانسان والمواطن، وتسألهم عما يدور في أذهانهم فيجيبونك في صوت جَهُوري واحد: الله يخرب بيتك يا ريس.
تتمكن في لحظة من لحظات المعجزات الكبرى من أن تجمع ثلاثين ألف معتقل، وتضم إليهم نصف مليون من أقاربهم وذويهم وأحبابهم وأبنائهم وبناتهم، وقد حَرَمَهُم الرئيسُ حقاً منحهم إياه ربُ العزة، وتسألهم جميعا مرة واحدة عن أكثر أمنياتهم قرْبا من مركز القلب، فتسمع هديراً كأنه لسان واحد يلهج بالدعاء الأخير: الله يخرب بيتك يا ريس.
تتسلل إلى مركز اعادة تأهيل ضحايا العنف والتعذيب، وتسمع حكايات لا قِبَلَ لأُذُنٍ بتَحَمُلها، ولا لقلب بالصمود أمامها، ولا لقوة بأسٍ بالتماسك لدى الاصغاء لتفاصيلها.
مئات من البشر المحطمين وقعوا ضحايا رغبة سادية مجنونة من ارهابي يمسك برقاب سبعين مليونا، ويأمر كلابا مسعورة تحمل نجوما على أكتافها، ونياشينَ على صدورها، ودماءً على أنيابها، وحديدا في قلوبها، وصخورا في مشاعرها، وبلادة في أحاسيسها، وعفنا في عواطفها.
باسم السيد الرئيس قررنا نحن ارضاء لجنونه أن نذيقكم عذاب الدنيا بكل صنوفه وأنواعه، ونجعل أقسام الشرطة مرتعا للشياطين، ونُشْهِد العالمَ كله أن متعة رئيسنا في اذلال شعبه أكثر عمقا واختراقا لجنون النشوة من الشبق الجنسي وسادية كل طواغيت العالم مجتمعين.
تقضي في مركز اعادة تأهيل ضحايا العنف والتعذيب بضع ساعات فتخرج لاعِنَاً طينة الانسان ، وغاضبا على الخَلق كلهم، وحانقا على الصامتين، وكافرا بكل ما يكتبه ويخطه المثقفون والاعلاميون والمعلمون والمحامون والقضاة والمفكرون والتربويون، ثم يصل طوفانُ غضبك إلى كل الصامتين على وجود هذا الرجل طوال ربع قرن ولا يزالون يتحدثون في أمور أخريات.
تطلب من مدير المركز أن يجمعهم ليودّعوك بعدما قررتَ نقلَ رغبتهم إلى من يهمه الأمر، في السماء أو في الأرض، ثم تسألهم بصوت خفيض خشية أن تُزيد اضطرابَهم ورعشاتهم: ماذا تريدون مني؟
فتأتيك حشرجاتٌ مختلطة بأنين وصعوبات لسانية، لكنك تتبين منها الدعاءَ المصري الذي سمعَته السماواتُ السبع والأرض وكل الكائنات الحية ملايين المرات: الله يخرب بيتك يا ريس.
تقرر اختصارَ الوقت كله، فتجمع المصريين في ساحة واحدة تتسع لسبعين مليونا، ويأتيك من كل فج عميق أناسٌ ضربتهم المذلةُ، ومرضى، وفقراء، وجوعى، وعاطلون عن العمل، وعدة ملايين من عوانس الوطن المسكين، وملايين من عمال لا تكفيهم أجورهم لليوم السابع من كل شهر، ونصف مليون مدمن قتلتْ إرادتَهم عصاباتٌ حيوانية ليست أكثر من خمسة آلاف من تجار المخدرات تعرف السلطة التنفيذية أسماءهم وعناوينهم ورؤوس أموالهم، لكنها تتركهم طلقاء ليساهموا في زيادة خراب وادي النهر الخالد .. واهب الخلد للزمان.
ويأتيك سكانُ المقابر، وملايين من الأُسَر التي يخجل الفقرُ أن تحمل اسمَه، وملايين من الحالمين بمصر المستقبل التي لا تغادرها الكرامة بأمر الرئيس، ويحصل المواطن على حقوقه، ويعرف واجباته، ويستمتع بخيرات وطنه، ويمارس حياةً تسبقها قيمةٌ سامية لبشر كرمها الله تعالى بنفخة من روحه، فنزعها سيد القصر ووضع مكانها رهبة وخوفا ودموعا ومسكنة ومهانة.
وتأتيك كل دابة على الأرض المصرية وفي سمائها، كأنك أعددت سفينة نوح قبل الطوفان، وتقف أمام سبعين مليونا من النفوس البشرية التي تحمل في جذورها أعرق وأقدم حضارات الدنيا وأكثرها ثراء، وتسألهم عن أمنية واحدة ستقوم بايصالها إلى ربِّ العرش العظيم الذي يجيب المضطر إذا دعاه، فتسمع زلزالا يهز أركان الكون ويكاد يصيبك بصمم أبدي.
لا تصدق للوهلة الأولى أنه الطلب الوحيد من المصريين إلى خالق الكون الذي يقول لكل شيء كن فيكون.
تهدأ قليلا وتتبين بوضوح رغبة كل من شرب من ماء النيل.
كانت .. الله يخرب بيتك يا ريس.
تقرر فجأة القيام بزيارة الرئيس حسني مبارك في قصر عابدين، فلا تعثر عليه، ثم تمر على قصر العروبة فيقال لك بأن الرئيس غادر العاصمة إلى مأمن له ولأسرته.
تنطلق إلى شرم الشيخ، فتمر على حراسة تدهشك كثافتها فتظن أنها لحماية الرئيس من عزرائيل وليس من المصريين.
يخطف بصرَك مشهدُ وفد إسرائيلي خارج لتوه من مقر السيد الرئيس، وتسمع أحدَ الأعضاء يضحك ملء وجهه وهو يقول: لقد حصلنا من زعيم مصر على أكثر مما طلبنا.
تدخل مهرولا عليه، وتطلب منه أن يستمع إلى رغبة كل أبناء شعبه، باستثناء بعض اللصوص والأغبياء والحمقى والوصوليين والمستفيدين والبلهاء، فيقول لك : هات ما عندك!
يتحول خوف السبعين مليونا في لسانك إلى شجاعة أنبل الفرسان، وتلقي في وجهه بأمنية المصريين:
الله يخرب بيتك يا ريس!
يستمع إليك الرئيس، ويستلقي على قفاه من الضحك ثم يقول لك:
لو تكاثر المصريون كالأرانب مئات الملايين وغضبوا علي، ولعنوني في يقظتهم ومنامهم، وجعلوا ختام صلاة الجمعة وقُدّاس الأحد بـــــــ ( الله يخرب بيتك يا ريس ) لَما تحركت شعرةٌ مصبوغة فوق رأسي،
لا تدمع عيناي إن كرهني كل المصريين فإنما يبكي على الحبِ النساءُ، ومادامت الصفوةُ والنخبةُ والمثقفون وصُنّاع الفكر في مصر تلتقي مصالحهم مع بقائي فوق رؤوسهم فلن تثور الجماهير.
المصريون يقولون : الله يخرب بيتك يا ريس أما أنا فأخرب بيوتهم في ظل صمت كبارهم.
(منقولة) من مجلة طائر الشمال[/color]